بروفيسور اوري قوبفرشميد
أصبحت بروفيسورًا فخريًّا سنة 2013، بعد مسيرة طويلة في القِسم بدأَتْ عام 1971. فترة “ما قبل التّاريخ” خاصّتي تقول بأنّني وُلدْت في سويسرا، ابنًا لوالِدَيْن نجحا بالهرب من النّازيّة، ترعرعْت في هولندا، تعلّمت في ثانويّة كلاسيكيّة، وكنت ناشطًا في حركة الشّبيبة “هبونيم حيث هاجر قسم كبير من أعضائها إلى البلاد.
منذ صِبايَ اهتممْت بالشّرق الأوسط، لذلك لم يكن صدفة أن أختار تعلُّم اللّغات السّاميّة في جامعة ليدن القديمة لتعليم “الاستشراق”، حيث كان ذلك تقليدًا قديمًا بسبب الماضي الاستعماريّ لهولندا.
بدأْتُ أركّز بشكل بارز على فقه اللّغة العربيّة، والحضارة الإسلاميّة، والأهم من ذلك: الدّراسة العِلميّة. إنّ الاهتمام بالتّاريخ كنظام، وبالشّرق الأوسط كانا قليلَيْن، ومن بين المحاضِرين لم يكن محاضرٌ واحدٌ يتكلّم اللّغة العربيّة كلغة أُمّ؛ لذا قمْت باستغلال الفرصة لتعلُّم اللّغة العبريّة (من ضمنها العبريّة المندرسة كما سَمَّوْها).
من هناك فكّرت بإكمال دراستي للّقب الثّاني في باريس، ولكن مع اقتراب الثّورة الطّلّابيّة انتقلت في الوقت المناسب إلى SOAS (المدرسة لدراسات الشّرق وأفريقية) التّابعة لجامعة “لندن”. لم أكن أعرف الكثير عن هذه المؤسَّسة، لكن تبيّن لي أنّ ذلك كان القرار الأفضل الّذي اتّخذته في حياتي الأكاديميّة. لم أكن أدرك أنّ قسْمنا سيكون مأهولًا بعدد من الزّملاء الّذين درسوا هناك.
مسار اللّقب الثّاني في: دراسات منطقة الشّرق الأوسط، كان يدمج بين: التّاريخ، العلوم السّياسيّة، والاقتصاد، بقالب تعليميّ ينتقدونه اليوم بأنّه أكثر جوهريّةً من اللّازم؛ لكنّني تعلّمت هناك الكثير، وكان المكان نابضًا بالحياة، وفعّالًا أكثر مقارنة مع “ليدن”، برفقة طلّاب عرب كثيرين.
مُرشدي كان مالكولم ياپ Malcolm yapp الّذي تحوّلَت محاضراته إلى كتاب يُعتمَد مادّة أساسيّة في قِسمنا في سنوات الثّمانين.
استمعت أيضًا إلى برنارد لويس في مساق عن الخلافة، بالإضافة إلى نشْره قبل ذلك بسنوات كتابه المتجدّد-يومها- عن تركيّا.
علَّمَني أيضًا البروفيسور بيتر. م. هولت Peter. M. Holt الّذي نشر في نفس السّنة مجموعة مقالات من مؤتمَر يعتبر اختراقًا كبيرًا في موضوع “التّغيّرات السّياسيّة والاجتماعيّة في مصر في العصر الحديث”. بالإضافة إلى كونه باحثًا في الشّؤون السّودانيّة والمماليك، كان مهتمًّا أيضًا بتعميق إدراكه في التّاريخ الاجتماعيّ لمصر، ويتشاطر ذلك مع طلّابه. كلّ ذلك كان فرعًا حديث العهد ومثيرًا، مبنيًّا على الكثير من الأبحاث الّتي قام بها غبريئيل بار في الجامعة العبريّة في القدس، والّذي صار مع الأيّام واحدًا من اثنيْن قاما بإرشادي لنيل لقب الدّكتوراة. بالمناسبة، كان كتاب هولت Holt: “مصر والهلال الخصيب”، ولسنوات طويلة، مرجعًا نستعمله في فترة لم تكن هناك موادّ تأريخيّة ملائمة للتّدريس قبل ظهور أعمال أكثر حَتْلَنَةً.
تجدر الإشارة أنّه في السّيمينار الدّراسيّ حول: “السّياسة في الشّرق الأوسط بدءًا من سنة 1914، حسب التّعريف المتَّبَع عندهم، فقد شاركْت في السّيمينار بموضوع “الإخوان المسلمين”، هذه الحركة الّتي اعتُبرت حركة مرفوضة بعد عام 1954. لم يكن هذا أحد المواضيع المرغوبة عند الطّلّاب، الّذين فضّلوا تناول موضوع القوميّة العربيّة الّذي كان رائجًا. ولكن، كما هو معروف، فإنّ موضوع الإخوان المسلمين لم يَغِبْ عن السّاحة، ورافقني سنوات طويلة. وبمناسبة مرور ثمانين عامًا على ظهورهم على السّاحة قمت بتنظيم مؤتمر في جامعة حيفا، وتمّ نشر المحاضرات في ملفّ. بالمناسبة، المسؤول عن النّدوة كان ف.ي. ووتيكيوتيس P.J.Vatikiotis، من مواليد القدس، وترعرع في حيفا، ويعدّ باحثًا بارزًا في شؤون مصر، وقد جاء ليتعلّم في القِسم لمدّة عام واحد، وكان واحدًا من مجموعةٍ من الباحثين من الخارج الّذين قضَوا إجازة تفرّغ عندنا في القسم. كلّ ذلك جاء ليبيّن كم كان (SOAS )، في تلك الفترة، مهمًّا ليس بالنسبة لي فقط، وإنّما للقسم كذلك.
عام 1969 هاجرت إلى البلاد، وحالًا انشغلت بإكمال تعليمي للّقب الثّالث- الدّكتوراة- في الجامعة العبريّة. المؤسّسات الحديثة الموازية، لم تكن قد افتتحت مسارًا لنيل اللّقب الثّالث في موضوع دراسات الشّرق الأوسط، بعد تردّد في اختيار موضوع البحث وقع اختياري على “المجلس الإسلاميّ الأعلى”. بحثْت وكتبت تحت إشراف غبريئيل بار و يهوشواع بورات.
تجدر الإشارة أنّه من ناحية أكاديميّة كان هذا المجال جديدًا نسبيًّا، والمصادر العلميّة البحثيّة محدودة، وشُحّ في الموادّ الأرشيفيّة المتاحة، أو المعروفة. فيما بعد كَثُرت الموادّ في هذا المجال، وحتّى اليوم ما زلت أرى، في هذا السّيمينار المشترَك- بار و بورات- في موضوع “العرب الفلسطينيّون في فترة الانتداب”، وطبيعة النّقاش فيه، والطّلّاب المشاركين فيه، كمساق تأسيسيّ ليس لي فقط. كذلك، في تلك الأيّام تطوّرت الأبحاث حول منطقتنا في الفترة العثمانيّة المتأخِّرة، بفضل أوريئيل هد Heyd الّذي لم أحظَ بمعرفته، وكذلك موشيه معوز وآخَرين. بعد عام 1967 بدأوا يتعمّقون بدراسة سجلّات المحاكم الشّرعيّة، ونتيجة لذلك فُتِحت نافذة لبحث موضوع الأوَقاف (غبريئيل بار، أهارون ليش، أمنون كوهين) وآخرون. الأمر الّذي تمّ التّعبير عنه لاحقًا بأبحاث لعدد من زملائي، وإلى حدّ ما في رسالة الدّكتوراة خاصّتي.
في صيف 1971 وبشكل مفاجئ وصلتني دعوة من “غابي ڤاربورغ” لأقوم بتعليم مساقات التّدريبات حول مساق المدخل. وهو مساق مكوَّن من محاضرة لـ غابي ڤاربورغ وبعدها لـ دافيد كوشنير، وعدد من التّدريبات المنهجيّة مثل: تحليل وثائق، ومهامّ كتابيّة كثيرة -كانت أكثر بكثير من مهامّ اليوم- حيث كانت الجامعة والقسم صغيرَيْن.
بدأْتُ بتعليم مساق عن الفلسطينيّين، مأخوذ من رسالة الدّكتوراة الّتي قمت بنشرها ككتاب بعد سنوات، واقتطعْت منها أجزاء كنت قد نشرتها كمقالات، مثل: “المؤتمر الإسلاميّ سنة 1931″، و “الإسلام يدافع عن نفسه”.
ابتداء من سنة 1979 حللْت مكان البروفيسور فاربورغ في تدريس مساق “مصر في العصر الحديث”، بينما استمرّ هو بالتّخصّص بشؤون السّودان. دائمًا ما رأيت بمصر بلادًا مثيرة، ومن نواح عدّة دولة مركزيّة في المنطقة.
كنت أدمج، أحيانًا الإسلام ومؤسّساته كنقطة ارتكاز مع الجوانب الاجتماعيّة في المنطقة. كلّ ذلك دون أن أغفل الفلسطينيّين وتركيّا (فقط حين وصلْت إلى البلاد بدأت تعلُّم اللّغة التّركيّة، لأنّ دستور القسم ألزَمَ بتعلُّم لُغتَيْن شرقيّتيْن)، ولست نادمًا على ذلك.
على مدار السّنوات، سار التّعليم والبحث جنبًا إلى جنب، حاولْت الابتعاد قليلًا عن تركيزي على الدّول العظمى: بريطانيا وفرنسا، حيث أثارت بلجيكا فضولي، وهذا الأمر أثمر كتابي عن الصِّناعِيّ هنري ناوس بي Henri Naus Bey. في نهاية المطاف كان ذلك عبارة عن سيرة ذاتيّة مطويّة ضمن تاريخ فرع السُّكَّر، والنُّخَب الأجنبيّة والمحلّيّة في تلك الفترة.
وصل (ناوس) بدَوْر تِقَنِيّ، وليس مُستثمِرًا إمبريالِيًّا، وقد أنقَذَ فرع صناعة السّكّر في مصر من الإفلاس، وأصبح أحد الشّخصيّات الرّياديّة في اقتصاد مصر. إنّ تحليل علاقاته بالمصالح اليهوديّة قادني إلى كتابة بحث عن دور اليهود في الاقتصاد المصريّ.
بالإضافة إلى كلّ ذلك، هناك بعض المجالات الّتي اهتممْت بها، منها: التّاريخ الاجتماعيّ، حيث قمت بتدريس هذا المساق لمدّة ثلاثين عامًا، بالاشتراك مع مُساعِدي تدريس مُمَيَّزِين، مع التّكيُّف مع أفكار جديدة في مجال التّأريخ، والبحث عن آفاق جديدة مثيرة للاهتمام.
كنت متأثِّرًا جدًّا بمدرسة أنال Annales الفرنسيّة. مع مرور السّنوات تطوّرت وتوسّعت آفاق البحث، بسبب ظهور مراجع للكتابة، وتوسّعت معارف باحثي التّاريخ الاجتماعيّ، من المواضيع الجديدة كان موضوع “النّساء والجندريّة” الّذي أخذ دفعة إلى الأمام.
اعتنيْت كثيرًا بآثار الهجرة من القرية إلى المدينة، وبالنّسيج الاجتماعيّ، والتّقسيم الطّبقيّ في المُدُن. كان المساق انتقائيًّا، الأمر الّذي سمح لي بإدخال عناصر جديدة، مثل: الثّقافة المادّيّة ، الاستهلاك والتّرفيه، والإعلام الجماهيريّ حتّى أنّ قسمًا من هذه المواضيع صار موضوع بحث للّقب الثّاني، حيث كانت إطارًا أكثر ليونةً للبحث المتعمّق.
هذا هو الإطار الفكريّ الّذي من خلاله نشرت مقالي حول “ماكنة الخِياطة في دول الشّرق الأوسط”، ونشرْت كتابًا عن شبكة محلّات تجاريّة أوروسدي بك” (عائلتان يهوديّتان من وسط أوروبا). كلّ ذلك كان يُعْتَبَر اتّجاهًا جديدًا في البحث بالنّسبة لمجتمعات الشّرق الأوسط، إنّه مجال ما زال يثير فضولي واهتمامي، حتّى بعد التّغيّرات البحثيّة في العقود الأخيرة باتّجاه التّاريخ الثّقافيّ مثلًا، والتّغيّرات في الخطاب التّأريخيّ.
أنوي تعميق أبحاثي فيما يتعلّق بالتّوزيع التّفاضليّ للتّكنولوجيّات الصّغيرة الآتية إلى الشّرق الأوسط من أوروبّا والولايات المتّحدة. على عكس التّقنيّات الكبيرة مثل: سكك الحديد، شبكات التّلغراف، والكهرباء وغيرها. عن ذلك نشرت قبل فترة وجيزة مقالًا في ملفّ حول العَوْلَمَة الحديثة الأولى. بالمناسبة، على مدى عشرين عامًا عملْت مُراسِلًا أجنبيًّا للبثّ الإذاعيّ في هولندا وبلجيكا، في الحقيقة كنت محلِّلًا للأحداث في إسرائيل والمنطقة، لذا، ليس صدفة أن أهتمّ بجوانب مختلفة من الإعلام، هذا العمل فتح أمامي فرصًا لرحلات مفيدة في المنطقة.
إنّ خروجي للتّقاعد في منصب محاضر فخريّ حرّرني من الكثير من القيود الأكاديميّة، ومع خبرة مؤرِّخ محترف فُتِحت أمامي فرص عمل، إضافة لعملي في موضوع تاريخ الشّرق الأوسط، بدأت أبحث موضوع عائلتي قبل “الكارثة” (الهولوكوست)، بهدف صيانة تاريخ معرَّض للاندثار.
تجدر الإشارة إلى أنّه في بداية عملي في ليدن كُتِب باللّاتينيّة، كما كان متَّبَعًا آنذاك: emeritus cum posserit adiuvabat أي: على الرّغم من كونه متقاعِدًا فخريًّا، لكنّه سيستمرّ بتقديم المساعَدة بقدر ما يستطيع.
أصدارات
(محرِّر، مع مئير حطينا) الإخوان المسلمون، رؤيا دينيّة في واقع متغيّر (بني براك: الكيبوتس الموحّد، 2012).
* (עורך, עם מאיר חטינה) האחים המוסלמים, חזון דתי במציאות משתנה (בני-ברק: הקיבוץ המאוחד 2012)
* The Supreme Muslim Council, Islam under the British Mandate for Palestine (Leiden: Brill 1987).
* Henri Naus Bey: Retrieving the Biography of a Belgian Industrialist in Egypt (Brussels: Royal Academy of Overseas Sciences, 1999)
*“The Social History of the Sewing Machine in the Middle East”, Die Welt des Islams ,vol 44/2 (2004), pp 195-213
*European Department Stores and Middle Eastern Consumers: The Orosdi-Back Saga (Istanbul: Ottoman Bank Archives and Research Centre 2007)
*Strings and Celebrities: Hakkert’s “First Dutch Stringmakers” (Haifa: Pardes 2019)
*”On the Diffusion of ‘Small’ Western Technologies and Consumer Goods in the Middle East During the First Era of Globalization”, in Liat Kozma et al. (eds.), A Global Middle East, Mobility, Materiality and Culture in the Modern Age, 1880-1940 (London: Tauris 2015), pp. 229-260
اتصال
البريد الإلكتروني: kpfrschm@research.haifa.ac.il